إن واقع الأمة الإسلامية والواقع الاجتماعي اليوم و في عدد كبير من الدول العربية و الاسلامية، منها المغرب، يعج بانعراجات و انحرافات يومية متطرفة على صعيد الثقافة و العلاقات الاجتماعية تضمحل فيها و بكل فجائية دور القيم و الروابط و العلاقات الاجتماعية و حتى الأسس الدينية و الأخلاقية المفروض حكمها للفعل الاجتماعي و العلاقات بصفة عامة بين الأفراد و الجماعات . فيطل علينا كل يوم حدث او جريمة تقشعر لها الأنفس و تذهل لها العواطف و الروح الإنسانية فنستشعر جميعا خطر استهداف البناء الاجتماعي و الاخلاقي الذي افنى الأجداد في سبيل بناءه زهرة أعمارهم لنحيا على أسس نظام اجتماعي سليم يستوعب الجميع في جو من التسامح و الاعتراف بحق الآخر في الوجود و العيش الكريم ؛ فنطرح السؤال الفلسفي المحوري عند كل فاجعة : من نحن ؟ أ لسنا أمة محمد صلى الله عليه و سلم . أمة الاسلام و الرحمة و التآلف و التآزر، ألسنا أمة إقرأ ، ألسنا أمة التكافل و التعاطف في اسوأ الظروف الاقتصادية و الاجتماعية و البيئية . أسئلة كثيرة تطفو على السطح لمعرفة و استجلاء حقيقة ما وصلنا له . كيف وصلنا إليه من انتكاسات علاقاتية و اجتماعية و افلاس للفرد و الجماعة على حد سواء . ما دور الدولة و دور التربية الاجتماعية ما دور الثقافة و البناء الاجتماعي .ما دور الدين في صون التفاعل و الحفاظ على ما يمكن أن نطلق عليه سلامة الصحة و الهيكل الاجتماعي. قبل أن ادلي بدلوي في هذا الموضوع كمتتبع في الحلقة المقبلة، احيلكم على مقال جميل و تحليل منطقي لبعض الأمراض الاجتماعية و الظواهر الواقعية الغريبة عن هذا المكون الأساسي لجسم الأمة، قدمه الأستاذ سعيد يقطين في مجلة القدس العربي في ٢٧ سبتمبر ٢٠١٧ و للحديث بقية.
جدوعة رشيد ٢٩ ديسمبر ٢٠١٨ .
يقول الأستاذ سعيد يقطين :
لا يمكننا الحديث عن تربية اجتماعية بدون ثقافة اجتماعية. فالثقافة بدون تربية جهالة، والتربية بدون ثقافة تسيب. وما نعرفه الآن مع الانفلات الأمني والإرهاب وانحطاط القيم، على المستوى الواقعي، وعلى صعيد ما تقدمه لنا كذلك الوسائط الاجتماعية من خطابات، يبرز فيها التشنيع والقذف، خير دليل على ذلك.
صحيح هذه الوسائط جديدة، ولم يتم التكيف معها على النحو الذي يطور علاقاتنا بها. لقد تم التعامل معها وارتياد آفاقها واستغلالها بدون توجيه أو تقويم. ولم تواكب ذلك دراسات أو أبحاث تعمق فهمنا لطبيعة هذه الوسائط ووظائفها، في علاقتها بأبعاد جديدة لثقافة اجتماعية ممكنة أو محتملة. قد نجد توصيات، تظهر بين الفينة والأخرى، تحذر من القرصنة، أو من المخاطر الصحية التي تنجم عن كثرة استخدام هذه الوسائط، وما عدا ذلك لا نجد نقاشات فكرية وموضوعية، ولا دراسات علمية اجتماعية تكشف العلاقات معها، وتحدد سبل الاستفادة منها.
كل ذلك ترك المجال فارغا للتعلم الذاتي، والتعلم من الخطأ والصواب. وكان ذلك كافيا ليبرز بيننا عتاة القراصنة، ولم يظهر، في الصورة التي كان ينبغي أن تكون، لدينا مبرمجون قادرون على صناعة برمجيات ذات مستوى عالمي، وإن لم نعدم مطوري أو معربي برمجيات أجنبية. يمكن أن يعزى هذا التأخر في «إنتاج المعرفة» إلى المدرسة والجامعة، التي لم تتطور فيها مقررات التعليم، لتذهب إلى جوهر هذه الوسائط. كما أن الأجيال السابقة لم تواكب الثقافة الرقمية مواكبة حقيقية، بل إن التردد في اقتحام عوالمها لأكثر من عقدين من الزمان، جعل مواكبتنا لمستجداتها تقتصر على تملك آخر المنتجات والتباهي بها. والحصيلة أننا صرنا نوظفها توظيفا شعبويا لا يتجاوز المظاهر والسلوكيات التي تطغى في الحياة اليومية، بدون أي أفق لاستغلالها لتنمية العلاقات وتطويرها تجسيدا لثقافة اجتماعية جديدة. فكيف يمكن أن يكون عليه مستقبل الجيل الذي فتح عينيه على اللوحات الإلكترونية والهواتف الذكية، وصار يطالب بفتح شيء اسمه «الواي فاي» عندما يتوقف لديه تدفق الصور وذخيرته اللغوية ما تزال في بداياتها؟ ماذا أعددنا له ليكون مؤهلا لتوظيف هذه الوسائط في دراسته وتكوين شخصيته؟ من السهولة بمكان إلقاء اللوم على الأسرة، ولكن في غياب البرامج التكوينية والتعليمية من خلال الوسائط الجماهيرية، والوسائط الجديدة نفسها، لا يمكن إلا أن يتفاقم تغييب هذه التربية الاجتماعية لتكون مواكبة للتحولات التي فرضتها هذه الوسائط الجديدة. ولا يمكن إلا أن يسهم ذلك في خلق أجيال لا علاقة لها بأي نوع من أنواع التربية التي تسود داخل المجتمع.
كانت التربية، حتى وقت قريب، تتم بتوجيه وإرشاد وتتبع. ولقد أتاحت هذه الوسائط لمستعملها أن يخلق له فضاءه الافتراضي الخاص، الذي يجعله موجها ومتتبعا لما يهيمن فيه ذاتيا بدون وعي أو سابق معرفة. ولعل تورط الكثير من الشباب في قضايا الإرهاب الإلكتروني، كان وليد غياب هذه التربية.
أذكر كيف كانت التربية مع هيمنة الوسيط الشفاهي، وفي المدرسة، حافزا لنا لتكوين شخصيتنا الخاصة. كان الحرص على تعلم الخط والحساب واللغة كتابة ونطقا من الأشياء المهمة التي كان يتم التشديد عليها. وكان الإلحاح على قراءة الكتاب من الأسس التي بنيت عليها التربية، حين كان العنف سيدها. وكان الفرد لا يبدأ في تكوين عالمه الخاص إلا في فترة المراهقة، حيث يصبح ينتقي الكتب التي تتلاءم مع شخصيته وميوله وأهوائه. الطفل الآن وهو في الرابعة أو الخامسة من عمره صار له عالمه الخاص الذي يتحدد من خلال ما توفره له هذه الوسائط.
ولما كان المناخ العام الذي واكب التحولات التي أدخلتها هذه الوسائط الجديدة مختلفا عما قبله، لم تبرز في شخصيات الأجيال الحالية غير قيم الأنانية والغش وحب الظهور والتباهي. وأهم خاصية صارت تطبعها: السرعة في الوصول إلى الاغتناء، وتحقيق المكاسب بدون بذل أي جهد. لقد ولد الوسيط الجديد روح الاتكالية والحصول على المراد بدون تعب أو نصب. فما دام الفضاء الشبكي يوفر كل المعلومات المطلوبة، صار الطالب يكتفي أحيانا، على سبيل المثال، حين يكلف بعمل بحثي، بأن يقوم بالقص واللصق، وحتى بدون قراءة ما قص وألصق، وتصحيح الأخطاء، وتراه فوق ذلك يدعي أنه قام بعمل جبار يستحق عليه التنويه؟ وقس على ذلك في مختلف المجالات.
إن غياب التربية الاجتماعية وغياب الثقافة الاجتماعية وليد غياب وعي تام بدور الوسائط الجديدة في الحياة العامة. وما لم يبادر الجميع إلى تحمل المسؤولية وفتح باب الحوار النقدي لهذه التحولات لا يمكننا سوى تأكيد تخلفنا عن مواكبة ما يجري من حولنا على المستوى العالمي. لقد أتاحت الوسائط الجديدة إمكانات هائلة للتواصل بين الناس، وتجديد الصلات بمن انقطعت بهم لسبب أو آخر. صار الجميع يتبادل التهاني والرسائل، وصور الإعجاب، كل هذه الأشياء جميلة، ولكنها تتم في واقع افتراضي. لكن الواقع الحقيقي ما يزال يضج بالنقيض. ميلاد ثقافة اجتماعية، رهين تربية اجتماعية، ومدخلهما هو الواقعي قبل الافتراضي.
________